Wednesday, March 11, 2015

الألفباء في طبقات الشهداء


لا يحتاج المرء، (المرأة)، أن يكون قائداً عظيماً، أو صاحب ثراء قاروني، أو عالماً فذاً، أو مخترعاً فاتحاً، لا ولا يحتاج أن يكون عريق المَحْتِد، أو لقيطاً من أبناء اللعازرية، مؤمناً لا يقطع فرضاً، أو فاجراً لا تعتب عليه موبقة، لا ولا يحتاج أن يكون راشداً ذا زوجة وولد، أو رضيعاً لجوجاً في طلب الثدي والحنان، ولا يحتاج أن يحمل شهادة علمية وضيعة أو حتى رخصة سوق، بل لا يكاد يحتاج أن يكون من بني البشر لكي يجري عليه ــ سواء كان من طلاب الشهادة المتشوقين على أحرِّ من الجمر إلى ملاقاة الرفيق الأعلى أو من طلاب الحياة الدنيا المجتهدين في طلب ملذاتها ــ لكي يجري عليه لقب «شهيد». بل أكثر من ذلك: ليس لأحدٍ أن يضمن لنفسه ــ أو لمن يُحب أو لمن يكره ــ ألا ينتهي به الأمر شهيداً!

هو كذلك ولكن... الاشتراك في الموت ــ والموت للتذكير، شرطٌ لا تتم «الشهادة» بدونه ــ شيءٌ، والاشتراك في «الشهادة» شيءٌ آخر.

الموت يُصَحّحُ قول كعب بن زهير:

           كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ
                              يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ

أما الشهادة فتُكَذّب الحديث الذي مفاده أنَّ «النَّاس سَواسِيَة كَأسْنانِ المِشْط»... وهنا بيت القصيد، أو أحد بيوته: الموت ملك لصاحبه حتى عندما لا يبقى له من دنياه شيء على الإطلاق، أما «الشهادةُ» ــ ولو من باب المجاملة، ولو ليوم واحد ــ فللأحياء مِن الأهل والورثة والأخوة والأصدقاء والرفاق والمحبين والمبغضين...
يوماً ما، قد ينكب أحدهم على دراسة إحصائية يتحصل منها أي البلدان هو السبّاق في تدوير الموتى «شهداء»، وقد يتعمق في النبش فيكتشف أن لصناعة التدوير هذه صَرْفاً ونَحْواً يختلف من بلد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى وهكذا... وإلى أن يكونَ ذلك، وأن ينالَ صاحبنا شهادةً عُليا في «الشهادَتولوجيا»، يمكن الجزم باطمئنان أن لبنانَ ــ لبنانَ البلد والجماعات ــ يتبوأ محلاً مرموقاً في قائمة البلدان المنتجة المستهلكة المورِّدة المستوردة لـ «الشهداء»؛ وليس هذا الجزم من باب الانطباع والتخيل بل أمر واقع، وحقيقة مؤكدة، بشهادة المنافسة غير المشروعة بين هؤلاء «الشهداء»، برعاية ورثتهم وأولياء دمهم، وبين اللبنانيين، في شتى مرافق الحياة العامة، والخاصة أحياناً. وإذا كانت هذه المنافسة ليست بالأمر الجديد حقاً، فَلَعَلَّ من أخطر ما تطورته على مرّ السنوات أنَّها باتت حاكِمَةً على المفصل من مرافق الحياة اللبنانية العامة: «الحياة السياسية».


لا يضير شباط أن يكون الأقل أياماً بين أشهر العام؛ وسواء عابَت قلة الأيام هذه شباط أو ميزته، يبقى شباط، في لبنان، شهر «الشهداء» بامتياز وبلا منازع، ولأنه كذلك فلا مبالغة في القول إن لبنانَ أشبهُ ما يكونُ خلال هذا الشهر ببلدٍ تَحْتَ الاحتلال: تحت احتلال «الشهداء»، لا سيما الشين شين منهم: شهداء شباط أو كما يحب صديقي أن يسميهم: «شهداء البزنس كلاس»... ثم يمضي شباط، إلى رجعةٍ موعودة، ويُوَضّبُ الورثةُ والأولياءُ مومياءاتِ «الشهداء» في لفائفها ويبقى الاحتلال، ويمضي في توسعه بهمّة «طلاب الشهادة»، وأحياناً كثيرة على حساب المُسْتَشْهَدين بين يدي الصُّدَفِ ــ صُدَفِ المكان والزمان ــ بلا همّة مهمومة، ولا طلب مطلوب، ولا من يحزنون...

بالطبع، لا شهرَ من الأشهر يخلو من «الشهداء»، ومن تذكير اللبنانيين بأنهم «تحت الاحتلال»، ولكن لا شَهْرَ كشباط هذا، الشهر الثاني من عام 2015 الذي يُحيي فيه اللبنانيون الذكرى الأربعين على اندلاع «الحرب»، فضلاً عن ذكريات أخرى، لِقَطْعِ حساب (موقت) مع «الشهداء»، واستطراداً مع ورثتهم وأولياء دمهم، وللهمس في آذانهم بأننا نضيق بهم ذرعاً، وبأن احتلالهم، ككل احتلال، إلى زوال... حيَّ على المقاومة!
خزّان الشهداء...

اعتلى المنبر، بَسْمَلَ، صلّى وسلّم وبدأ برثاء «الشهيد» وشجاعته، ثم بمديح العائلة التي ينتسب إليها «الشهيد» وسخائها في تقديم «الشهداء»، ومن «الشهيد» والعائلة انتقل الخطيب المتمرس إلى الإشادة بالمنطقة ولم يتأخر في وصفها بـ«خزان الشهداء». اختتم الاحتفال بتلاوة أجزاء من السيرة الحسينية وانفض المجلس على موعد  قريب بمناسبة شهيد جديد.

لم يكن هذا «الأسبوع» أوَّلَ مَرَّةٍ أسمع فيها خطيباً يُشبّه البقاع بـ«خزان الشهداء» ولكن هذه المرة، لربما بسبب من شعوري بالضيق لاضطراري إلى القيام بهذا «الواجب الاجتماعي» نزولاً عند إلحاح العائلة، أردتُ أن آخذ بثأري من نفسي أولاً، ومن كل «الشهداء» ومن يتابعهم... وأسْهَلُ الثأر أحياناً أن نحمل ما نقوله، أو ما يقوله الآخرون، على مَحْمَل الحقيقة.

وهذا ما كان: انتهزت مناسبة اجتماع الأهل والأصدقاء بعد «الأسبوع» الصباحي لاستراحة قصيرة تسبق الغداء على مصطبة أحدهم وسألت ببراءة:

- بصراحة مش عم بفهم... كيف يعني نحنا «خزان الشهدا»؟ إنو يعني نحنا شهدا قبل ما نستشهد؟ إنو بياخدونا على الموت ونحنا مستشهدين أصلاً؟ عن جدّ مش عم بفهم...

لم يعلق أحد على استفساري، ولكن بدا واضحاً، من قلة الجواب، أن الاستفسار لم يقع من الحضور في آذان صماء. ثم انتهز أحدهم، بعد الصمت الذي ساد لهنيهات، إتياني على ذكر الخزان للسؤال عن مصير الخزانات التي وعدت الست ليلى (الصلح) أن تزود بها مدرسة القرية، فكان قالٌ وقيلٌ انتهى بأن تحوّل الحديث إلى النَّشّ الذي يُعاني منه خزان فلانٍ ثم إلى ما يشبه الجَلَبَة حيث أخذ كل جار يطالع جاره بقصة بطلُها خزّانُه، أو يُسدي إليه نصيحة من وحي المناسبة.

في ما بين ذلك كنت أنا أيضاً منهمكاً بأفكاري وبخزاناتي... وبدا لي، لبرهة، أنني قد وَجَدْتُها: البقاع من جنوب لبنان في محلّ السطح من المنزل. بناءً عليه، من المنطقي متابعة لأحكام الجاذبية، أن يُصْمَدَ الخزانُ على سطح المنزل. سَرّتني الفكرة إلى أن تذكرت أنَّ «الشهيد» الذي عُدْتُ للتو من ذكرى أسبوعه «استُشْهِد» في حلب، وحلب تقع إلى الشمال من البقاع، وهي، مِنْ ثَمَّ، في محل السَّطْح منه... بناء عليه، لا محل للتوسل بأحكام الجاذبية لتفسير جريان الشهداء من خزانهم صُعُداً.

أربكتني الفكرة إلى أن انتهى إلي حديث جار لجاره عن الموتور الصيني ذي الحصانين الذي يضخ به الماء إلى أعلى المبنى الذي أنْجَزَ بناءَه حديثاً في حي السلم والذي انتهى من بيع شققه جميعاً...

استأذنت بالمغادرة وأنا أقول لي: هي أحد اثنين لا ثالث لهما: إما أنهم، («الشهداء»)، يُضَخّون صُعداً بفضل موتور صيني ذي حصانين، وإما أنهم يتبخرون من خزاننا ويتقمصون شهداء هناك...

عن «شهداء» يُطاولونَ جبالاً مُتَخَيَّلَة

ليسَ تشبيهُ الشهيد ــ بالمعنى الواسع لكلمة شهيد ــ بالمُرْتَفَع من الأرض اختصاصاً، أو اختراعاً، لبنانياً. الخنساء سَبَقَت الجميع يوم أن قالت في أخيها صخر «كَأنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ» وجعلت منه منارة «يأتَمُّ الهُداة بها». ولا عيبَ في مُتابعة الخنساء، أو من سبق الخنساء إلى هذه الصورة البيانية... أليسَ التَّشَبّه، في النثر والشعر وغيرهما، باباً من أبواب الفلاح؟

نعم، لا عيب في ذلك ولكن التشبيه، كأي مُنْتَج، عرضة للارتثاث والتهلهل، وقد يتأتى ذلك من نقص يدخل على المُشَبَّه (هنا، الشهيد) أو المُشَبَّه به (هنا، الجبل)، فكيف به إن استولى على الاثنين معاً؟

ثم لنفترض جدلاً شهيداً لبنانياً مطابقاً للمواصفات... من أين نأتي له بجبل موافق للمواصفات؟ أي، على قول ابن خفاجة، بجبل:

[...] أرْعَنَ طمّاحِ الذُؤابةِ بَاذخٍ                 يُطاولُ أعنانَ السماءِ بغارب
يسدُّ مهبَّ الريحِ من كلّ وجهةٍ              ويزحمُ ليلاً شُهبهُ بالمناكب

قد يقتضي، بَعْدُ، وقت طويل قبل أن تتجرأ كل جماعة من الجماعات اللبنانية على تشريح شهدائها، وقبل أن نتجرأ كلبنانيين، ولو افتراضيين، على تشريح شهدائنا المزعومين مشتركين فنعرب الغثَّ من السمين، والأصلي من المغشوش، ولربَّما يسبقنا الوقت، ببساطة، فلا نُقْدِمُ على
 شيء من ذلك وتمضي مواكب الشهداء تترى!

في كلا الحالين، آن الأوان، إن لم يكن قد تأخر، لمُصارحة مشاريع الشهداء، أياً تكن الوجهة التي يقصدون، بأنَّ الجبالَ التي يُوعدون بمطاولتها، إن نالوا الحُسنى وفازوا بالفوز العظيم، لا تَعْدو كَوْنها جبالاً مُتَخَيّلة: بناياتٍ شاهِقَةً تحصر إرثَ الكسّارات، أو جبالَ نفايات يُطمَرُ بها البحرُ طمعاً بمزيد من السَّهل (العقاري)...

دعوا الأطفال يأتون إلي

«دعوا الأطفال يأتون إلي»...

ليسَ السيد (المسيح) هو الوحيد الذي ينادي الأطفال أن يأتوا إليه؛ الموت أيضاً، ومجلس النواب اللبناني يدعوانهم إليهما ويفتحان ذراعيهما لاستقبالهم. بالطبع، لا قياسَ بين الدَّعْوَتين ولكن انعدامَ القياسِ لا يُعْدِمُ العلاقة بينهما، علماً أنَّ العلاقة هذه قد لا تكون أقل من سببية بالمعنى الحرفي للكلمة. شأنَ الرّاشدين، ليس كلُّ مَنْ يُقْتَلُ «تحت السن» بمستحق، ولو على سبيل المجاملة، لرتبة «شهيد» أو «شهيدة». لا بد للطفل/الطفلة، لئلا يُبْتَذَل ويُجْمَل في عداد «الضحايا الأبرياء»، أو في عداد «الشهداء لساعة» ــ ساعة التشييع ــ من نَسَبٍ يُؤَهّلُهُ لنيل هذه المرتبة. وفي هذا المقام، كل شيء بحُسْبان، وما يسري على عبدالله بن الحسين، هو ما يسري، قياساً مع الفارق، على عدد من الأطفال الشهداء اللبنانيين: استحقاق لقب شهيد، قبل سن التكليف، ثم الاحتفاظ باللقب، ليس بالأمر الميسور لكل طفل/لة. لا بد له/لها من استيفاء مواصفات معينة. على سبيل المثال:

- أن يزيد مقتل الطفل/الطفلة المعنيّ من رصيد تضحيات الوالد/ة (بشير الجميل)؛

- أن يُضفي مقتل الطفل/الطفلة على مقتل الوالد، في حال قتل الاثنان معاً، قيمة تضحية مضافة؛ (السيد عباس الموسوي)؛

- أن يُضَيّعَ الموت على الطفل/الطفلة القتيل «مستقبلاً» ما، أو احتمال «مستقبل» ما؛ (طارق وجوليان داني شمعون علماً أنَّ هذا السيناريو، لا سيما من خلال المِثال المَسوق، يُبرز  التّقاطع بينه وبين السيناريوهين السابقين).

مقدارَ ما تبدو العلاقةُ بين الطفولة والشهادة محفوفةً بالشروط، فإن العلاقة بين «الطفولة» و«النيابة»، أو سواها من المناصب، قد تبدو سببية انسيابية مُسْتَنَدُها حقُّ شُفْعةٍ مكتوبٌ لوريثٍ بعينه، دون ورثة آخرين، بدم المُوَرّث ــ سيان دمه السياسي أو دمه المَسيل قتلاً.


نقول «قد تبدو» لأن الأمر ليس كذلك تماماً، وحق الشفعة هذا ليس مكتوباً، في لوح محفوظ، لوريث بعينه: لا بد للطفل، لكي يتبوأ مقعده من البرلمان أو من سواه، أن يُسَمّى من «العائلة» ــ  و«العائلة»، هنا، كناية مُكَنّاة عن كل من لهم رأي في التَّرِكَة المعنية ــ سواء من الأسرة القريبة، أو من الحزب الذي انتمى إليه المورث، أو من التيار السياسي الذي كان من المعدودين من عداده لحظة انتقاله إلى الرفيق الأعلى. ثمَّ إنَّ النيابةَ المبكرة ليست دوماً صِنْوَ الطفولةِ الوريثة. يتفق للوريث أحياناً أن يُضطر إلى التحلّي بالصبر ريثما يَقْضي أحدُ أفرادِ العائلة حاجَتَه من المقعد المذكور... وهكذا هكذا، وعليه قِس... [يتبع].

حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة

«حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة»


ومن القواعد المُقَرَّرة في «الشهادَتولوجيا» أنَّ القتيل في سبيل قضية واحدة واضحة المعالم، أو مَنْ يسري الاعتقادُ بأنه قتيلُ قضية من هذا القبيل، أهْوَنُ على التَّسييل في سوق الشهداء من القتيل في سبيل قضايا شتى أو القتيل في سبيل قضية غائمة الحدود.

ولعل الأبرزَيْن من بين الشواهد «اللبنانية» على هذه القاعدة عماد مغنية ورفيق الحريري؛ فالأول من بينهما، بصرف النظر عَمَّنْ قتله، أحد أجهزة النظام السوري أو الموساد أو السي آي إي أو فريق لم يُتَّهم بعد، أو الأربعة مجتمعين، أو ثلاثة من الأربعة أو اثنين منهما، «شهيد» واضح المعالم لا يرتضي التنظيم الذي ينتمي إليه أن يُشَكّكَ مُشَكّكٌ في القضية التي قتل في سبيلها، واستطراداً في هوية المرتكب أو أقله في هوية الآمر والمحرض. أما رفيق الحريري، وبصرف النظر عمن قتله،  أو أمر أو حرض على قتله، فـ«شهيد حائر»، لا تستقر «القضية» التي قُتل في سبيلها على قرار، ويبقى، مِنْ ثَمَّ، شهيداً برسم التنقيح أو قل شهيداً برسم «الإعمار» و«إعادة الإعمار» إلى ما لا نهاية...

قبل قليل من موعد الاغتيال، (أي من موعد الغداء الذي لم يتح له أن يتناوله)، غادر رفيق الحريري البرلمان وتوجه إلى مقهى الإتوال...

«كنت أجلس مع [محمد] شقير في جانب [من المقهى]، وكان الزميل وليد شقير والناطق الإعلامي باسم الأمم المتحدة في لبنان نجيب فريجي [يجلسان] في جانب آخر، وعندما دخل الحريري توجه إلينا وقال: «أنتما تمثلان الطائف»، ثم توجه إلى شقير وفريجي: «أما أنتما فتمثلان القرار 1559»، وأنا سأختار مكانا وسطاً...»؛ (من شهادة فيصل سلمان أمام المحكمة الدولية؛ السفير 9 كانون الثاني 2015).

لا يهم أن يكون المدير السابق للمخابرات، جوني عبده، بعد أسابيع من شهادة فيصل سلمان، قد ناقض هذه الشهادة، وصرح بالفم الملآن: «نعم رفيق الحريري ما زِعل وقت إللّي طلع الـ 1559... حتماً ما زِعل... رفيق الحريري إلو يَدْ بالـ 1559؟ نعم إلو يَدْ بالـ 1559» ــ لا يهمّ، ولا من يحزنون فلا شهادة هذا تزيد من «مظلومية» رفيق الحريري، ولا شهادة ذاك تضيف إلى رصيده «السيادي»؛ (من شريط «زمن رفيق الحريري» الذي بُثّ في 14 شباط 2015).

يزعم بعضهم أن عماد مغنية شريك في اغتيال رفيق الحريري. حتى هذا، إثباته أو نفيه، لا يهمّ... المباراةُ، اليومَ، بين «شهيدَيْن»، وفي هذه المباراة بين «حَيَّيْن» يبدو عماد مغنية كما ولو أنه لم يخلع ثياب الميدان بعد، في حين يبدو رفيق الحريري أشبَه برائد مقهى، عجوز، حيرته جالسة تفاحة على الطاولة...
عن موتى غبّ الطلب وشهداء بأمر مهمّة

هذا العام يحتفل السيد موسى الصدر بعيد ميلاده السابع والثمانين، ويحتفل نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس حركة أمل، (وفق سيرته الرسمية)، بعيد ميلاده السابع والسبعين، وتحتفل حركة أمل وجماهير المحرومين بـ«عيد» تغييب الإمام السابع والثلاثين؛ أما الليبيون، أو بعضهم على الأقل، فيحتفلون، عامنا هذا، بالذكرى الرابعة على سقوط «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى» وعلى مقتل مؤسسها وقائدها.

كل هذه الذكريات والسنوات والاحتفالات لم تَنَلْ مِن غياب السيد الإمام، وما زال أولياء ذاك الغياب عند شرطهم المشروط الذي أعلنوا عنه غداة الغياب: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»، والويل ثم الويل لمن يقول خلاف ذلك فـ«كل ما أشيع ونشر في الآونة الأخيرة من أخبار ملفقة في خصوص قضية الإمام المغيب السيد موسى الصدر ورفيقيه عار من الصحة جملة وتفصيلًا»، والقضية «قضية خطف [و...] الهدف هو تحرير الإمام ورفيقيه من مكان احتجازهم المجهول»؛ (الاستشهاد من البيان الصادر عن المكتب الاعلامي للرئيس نبيه بري في 10 شباط 2015).

لهذه الأسباب، ولكل الأسباب الأخرى التي تَقْتُلُ من الضجر في حال الإدلاء بها، يَنْزِلُ السيد موسى الصدر من شعب المفقودين اللبنانيين، («المخطوفين»، «المخفيين قسراً»)، منزلةَ الأيقونة، ويَنْزِلُ من الشهداء منزلةَ «الشّهيد مع وقف التنفيذ» بامتياز.

بالطبع، ليس كلّ المفقودين ممنوعون من الصّرْف في سوق «الشهادة» (شأن «موسى الصدر ورفيقيه»). وفي تصنيف «المفقودين» أيضاً، الدنيا، على ما أفتى الرفيق أسامة، «فسطاطان»: «بزنس» و«إيكونومي». ففي عام 1995، وكانت الأيام أيام إعمار وتبات ونبات، لا عدالة ولا حقيقة ولا من يحزنون، صَوَّتَ مجلس النواب اللبناني في 15 أيار 1995، (الموافق الذكرى السابعة والأربعين على إنشاء «الكيان الصهيوني الغاصب») على القانون رقم 434 الذي يُعَدّدُ الأصولَ الواجب اتباعها لإثبات وفاة المفقودين.

بصرف النظر عن السفسطات القانونية ذات الصلة بالموضوع، وعن مطالبات «المجتمع المدني» وشركاه، فهذا القانون ساري المفعول، وهو في محل تَوْفِيَةٍ غِبّ الطلب، مع الحِرْمان مِنْ لَقب «شهيد»، للآلاف من «المفقودين» اللبنانيين وغير اللبنانيين مِمَّن يستحيل «الإبراء» من دمهم. 


خلاصة القول؟ تحصيل حاصل: مخطوف البزنس لا يموت موت مخطوف الإيكونومي. مخطوف البزنس، بخلاف مخطوف الإيكونومي، لا تقبضُ الملائكةُ روحَه دونما استئذان. مخطوف البزنس، «الشهيد» حكماً بدون نقاش ولا ترانزيت، لا يُغادر الحياةَ إلا بتكليف وأمر مهمة...

العاتية على العاتي

«العاتية على العاتي»

خاطبتهم قائلاً: «أنتم الشموخ كجبال لبنان الشامخة العاتية على العاتي والعالية على المستعلي».
غنت جوليا وصفق الجمهور الجالس في المقاعد الأمامية «الإمامية» ــ جمهور الرقم 4 الذي لا تقهره جبال ولا وديان والمتحفز للطيران على متن فانانه المتسابقة في شوارعنا الضيقة صوب الجليل...

«وصلت الرسالة يا سيدنا» أجابوك، وأكملت جوليا وأطربت الركاب، وصرخ السائق بأعلى صوت :زيح يا إ**...

أصبت، نحن كجبال لبنان، نهوى الجبال وروائحها ونعمل على  اكتشاف خباياها، من القلمون إلى أعلى هضبة نفايات في العمروسية.

نصول ونجول ونخلع أحذيتنا احتراماً للأرز وشجر الصنوبر، حيث الشهيد وأم الشهيد وأخت الشهيد، وحيث مشروع الشهيد الذي لا ينام، وإن اتفق له وغفت عيناه أيقظته رائحة مشاوينا ودربكة أراجيلنا وشجاراتنا الودية على موقف سيارة.


يا سيدنا، جبال لبنان أصبحت أعلى بعد تموز، وأغلى... سَلْ رجال الله عنها....سَلْهُم عن سعر المتر المربع فيها، سَلْهُم كم ارتفعت قيمتها بفضل أطنان الصخور والرمول المستخرجة منها إرضاء للعقاريين وشركاهم، وأطنان النفايات ومخلفات المسالخ والمستشفيات التي نُخَصّبُ بها الوديانَ لعلها تُنبت جبالاً، وأطنان المشاعات والأملاك النهرية المقسومة، بالعدل والسوية، بين «الرابط» و«المسؤول»... 

خلص يا سيدنا... جبال لبنان العاتية تكاد تنفجر مما يعتمل فيها من غاز الميثان ومن أموال حرام ومن ديدان وصراصير.

خلص يا سيدنا... الشهداء مقبلون على إعلان الإضراب العام... نعم، الإضراب العام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من القضية التي راحوا في سبيلها إلى غير رجعة...
قد تكون محقاً في قولك إن رجالك، أخوتنا، يدافعون عن لبنان، عن سهله والجبل في وجه الصهيوني والتكفيري وغيرهما من العتاة، ولكن... هل يعقل يا سيدنا أنك لا ترى العُتاة الأقرب؟ دعك من العتاة من مواطنينا اللبنانيين الذين سوف نوكل للقضاء أن يأخذ لنا منهم حقنا... أحدثك عن عتاتنا يا سيد... الأقرب إليك من حبل الوريد، وإلينا... ألا يستحقون شيئاً من بلاغتك ومن إصبعك الذي تشير به صوب الجليل...

خلص يا سيدنا... صدقني... لم يبق مِنّا مَنْ لم يُصَبْ بالأكروفوبيا (رهاب المرتفعات) ــ بما في ذلك أكروفوبيا جبال النفايات.

كيف لا يكون ذلك وليس من ابن امرأة يجرؤ  أن يخرج آلة تصوير ليصور طفله على قمة الجبل الرفيع إلّا بإذن من رجالك أو بعد عبثهم بكاميرته وتفقدهم ما وثّقه من خصوصيات عائلية؟

كيف لا يكون ذلك والكلمة الأعلى، (الأعلى من الجبال)، في جبالنا والوهاد للحجاج المولجين بالأمن؟
خلص يا سيدنا... صدقني... من لم يُصَبْ منا بالأكروفوبيا، تفتك به الباثوفوبيا (رهاب المنخفضات) ــ بما في ذلك باثوفوبيا الضاحية... أليست الضاحية وهْدَةً بين جبال...

يا سيدنا، صحيح أن رجالك سجلوا نقاطاً على إسرائيل ولكن أثمان هذه النقاط لا تكف تزداد ارتفاعاً، بمقدار ما تزداد هذه النقاط ابتعاداً كغيوم بيضاء مبعثرة في سماء صافية.

أكره الحنين يا سيدنا ولكنني لا أكره القرية التي ولدت وترعرعت فيها، وهذه القرية اليوم لا تشبه شيئاً على الإطلاق. ليس أنها فريدة من نوعها أو ما شابه ذلك من دواعي الافتخار... كلا، الأمر أبسط من ذلك بكثير: لم يبقَ منها شيءٌ على الإطلاق... ولأنه لم يبقَ منها شيءٌ على الإطلاق فهي لا تشبه شيئاً على الإطلاق...

لا أريد أن أزيد على همومك هموماً ولكن حقك أن تعرف أن العدو الغاشم ليس من صيَّر قريتي أثراً بعد عين...

لا شك عندي بأنك تعرف عن الأشياء وبواطنها أكثر مني بكثير ولكن لست أدري إن كنت تفقه حقاً ما أصارحك به: في الحرب المقبلة، إن وقعت الحرب، لن أخشى على قريتي من قصف أو من دمار، ولن أنفعل... ذِمَّةُ أشْرَف النّاس أوْسْعُ مما ظننت!

لن أنفعل، ولكنني لن أتنازل عن الوعد الذي قطعته لابنتي ذات السابعة بأنَّ لها، في مكان ما بين السهل والجبل، أرضاً صغيرة كان يزرعها جدها باللوبياء ــ أرضاً افتراضية بين سهل وجبل مُتَخَيّلين.

لا أعِدُكَ يا سيدنا بأنّ ابنتي سوف لن تنازعَ «المُحْتَلَّ» أرضَها الافتراضيّةَ تلك، ولو قيل لها بأنَّ يمينَه سدَّدَت أروع صاروخ إلى أفتك دبابة!


«كل شي عم يخلص»، يا سيدنا، «كل شي عم يخلص» حتى السهل والجبل...
1975 ــ 2015 فصاعداً
من حضر السوق باع واشترى...

تبدأ حياة «الشهيد» مع الملصق الذي يُشْهِر على الملأ التحاقه بالرّكب السائر إلى الخلود والعُلى، ــ ويمكن، في حالة «شهيد الإيكونومي»، أن تَنْتَهي هنا!

ولـ «هنا»، هوامشُ من قبيل المجلّة الحزبيّة التي قد تُعيدُ نشر الملصق أو تخصّ «الشهيد» بمرثيّة بقلم أحد الرفاق. أما الأحزاب والتنظيمات «الجادّة» فلا تَدَعُ «الشهداء» يرتاحونَ بل تتابع تدويرهم بلا كلالة ولا هوادة. ولتدوير الشهداء أشكالٌ لها أول ولا آخر لها: أقل التدوير أن يُحْصى «الشهداء» في كتاب يجمع بين دفتيه من سقط منهم خلال فترة زمنية معينة، أو من سقط منهم في معركة مسماة، أما إذا كان الحزبُ أو التنظيم دولةً أو مشروع دولة فلقد يُنشئ مؤسسة ترعى «الشهداء» (وعوائلهم)، وقد يُخَصَّص على الإذاعة الناطقة باسمه، أو القناة التلفزيونية برنامجاً يومياً أو أسبوعياً يستعرض أسماء من سقط منهم في ذلك اليوم/الأسبوع وسيرهم وهكذا. أما في عصر الإنترنت، فأقل الوفاء لـ «الشهيد» أن تبادر سرايا الإعلام الإلكتروني، أو الإعلام المركزي أو عمدة الإعلام أو ما شاكل التابعة لهذا الحزب أو ذاك إلى إنشاء صفحة على الفيس بوك لشهيد قائد أو لمجموعة من الشهداء كما يحدث أن يُخَلّدَ الشهيد، ليوم وليلة، من خلال هاشتاغ تطلقه السرايا تلك أو أحد الإخوان أو الرفاق.

بيت القصيد أن «الشهيد» لا يموت طالما أمْكَنَ تسييله وطالما وجِدَ مَنْ يعمل على ذلك، أي مَنْ يَسْتَثمرُ فيه لغاياتٍ في نَفْسِهِ يُمْكِنُ الشهيدَ ألّا يَفْقَهَ منها شيئاً على الإطلاق، أي من يجدد قيمته الشرائية.

إلى هؤلاء الذين يصح أن يُوصفوا بـ«الشهداء الأحياء»(*) بإرادة من أرْسَلَ بهم إلى الموت، هناك «الشهداء الأموات» وهؤلاء، مُسايرة لما تقدّم، هم «الشهداء» الذين تَدَنّتْ قيمتهم الشرائية إلى الصّفْر سواء لاندثار الحزب أو التنظيم الذي قاتلوا تحت رايته («قوات ناصر» مثلاً) أو لموت «القضية» التي ماتوا على «مذبح» الدفاع عنها («جيش لبنان الجنوبي» مثلاً)، أو لخوف أولياء دمهم من تجيير هذا الدم إلى حساب نزاع جار  (قتلى الثمانينيات من متنوري الطائفة الشيعية الذين اغتيلوا على يد «القوى الظلامية» أو وجهاء الطائفة السنية الذين اغتيلوا على يد نظام البعث السوري).


هو كذلك ولكن حذارِ حذار... جانِبُ الشهداءِ الأمواتِ لا يُؤْمَن، والشهيد الميت كالنص الأدبي والمقطوعة الموسيقية: حَسْبُهُ أن يَبْلُغَ عمراً معيناً حتّى تسقط عنه جميع الحقوق ويدخل في المشاع... (ومن أظرف الأمثلة على ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده سمير جعجع في 14 تشرين الثاني 2012  ورّد فيه على ما جاء، قبل أيام، على لسان السيد حسن نصرالله بمناسبة «يوم الشهيد» حيث عدد جعجع في مؤتمره ذاك «بعض الجرائم التي قام بها حزب الله» وقد افتتح تعداده بـ «تفجير السفارة الأميركية في بيروت»، (18 نيسان 1983)، وأنهاه بـ«العثور على وثيقة سرية عائدة لأحد أجهزة المخابرات السورية تشير الى تورط حزب الله في عملية اغتيال جبران تويني»، لا متناسياً، في سياق التعداد حسين مروة وداوود داوود ومحمود فقيه إلخ...).



(*) مع مراعاة عدم الخلط بينهم وبين «الشهداء الأحياء» بالمعنى المجازي أي اولئك الذين أوشكوا على «الشهادة» لولا أن لُطِفَ بهم... على كره منهم أحياناً.

الذين ثَـكِلَتْهم أمَّهاتُهم


على ذمة المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح الترمذي في تفسير «ثكلتك أمّك»: «ثكلتك بكسر الكاف أي فقدتك وهو دعاء عليه بالموت على ظاهره ولا يراد وقوعه بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة وتعجيب وتعظيم للأمر».

لعلَّه أن يكون كذلك غير أنَّ الثلاثةَ هؤلاء، وثلاثات ألوف غيرهم، ثكلتهم أمهاتهم عن حق وحقيق ولم يبكهم أحد، هنا على الأقل، كأنهم لم يموتوا، بل كأنهم لم يموتوا في سبيل قضايا «مُحِقّة»!

أليم دسيزا، «العاملة الأثيوبية الشهيرة»، انتحرت في 14 آذار 2012، الذكرى السابعة على «ثورة الأرز»، أما الجندي الإسباني فرانشيسكو صوريا فقتل بنيران ما تزال مجهولة المصدر خلال مباراة الإياب بين حزب الله والقوات الإسرائيلية في مزارع شبعا (28 كانون الثاني 2015)، في حين أن حمار المتين فدى بما عُذّبَهَ على أيدي لبنانيين، داعِشِيين في ساعات الفراغ، لبنانيين آخرين كان اللبنانيون الداعشيون يشتاقون إلى التمثيل بهم أحياءً وأمواتاً.

قد لا يخلو أن يمتطي أحدهم، باسم حقوق الإنسان أو حقوق الحيوان، ظهر «الخادمة» أو «الإسباني» أو «الحمار»، وأن يُطالب باسم «الظلم بالسَّوِيَّة» أن تَنْزِل مقاتِلُهم منزلةَ الشهادات المؤهلة لنيل رتبة «الشهادة»، وقد يفلح هذا الأحد في مسعاه فيُجَلّل مطاياه بجلال الشهادة ــ قد يكون ذلك، ولكن يبقى أن هؤلاء الثلاثة، بأقلِّ ضجيج، وبأبخَسِ الأثمان، يتفوَّقون على «الشّهداء»: أمهاتُهُم ثَكِلَتهم كما يَليقُ بالأمّهات أن يَثْكَلْنَ، لا جميلاتٍ ولا مُنْتَظِرات...

Tuesday, March 3, 2015

طهران وحلب والجبهة الجنوبية

زياد ماجد

(نقلاً عن موقع NOW )

تُظهر التطوّرات العسكرية المتسارعة منذ شهر نوفمبر 2014 أن إيران زجّت بعشرات الضبّاط والمستشارين من حرسها الثوري وبآلاف مقاتلي حزب الله اللبنانيّين المتمرّسين في القتال، وبآلافٍ آخرين من المقاتلين العراقيّين والأفغان الهزارة الأقلّ تمرّساً في عددٍ من الجبهات المشتعلة في سوريا بين النظام الأسدي والمعارضة المسلّحة بفصائلها المختلفة.

ويتركّز وجود هؤلاء اليوم في محيط مدينة حلب، وعلى امتداد المحاور في ريف دمشق وفي محافظتي درعا والقنيطرة. وكلّف الإيرانيون ضبّاطهم ومسؤولي حزب الله بقيادة العمليات العسكرية وإدارتها ميدانياً.

وقد أدّى الأمر الى معارك طاحنة وعملّيات هجوم واسعة فشلت حتى الآن في حلب، إذ لم يتمكّن المهاجمون من إحكام الطوق حول المدينة كما كانوا يُريدون، في حين أنهم أحرزوا بعض التقدّم في الأسبوعين الأخيرين في مثلّث الجنوب، ولو أنه بطيء إن قورن بحشدهم العسكري وبسلاح الطيران الذي يساندهم وبالكثافة النيرانية التي يستخدمونها في المعركة.

على أن ما يمكن تسجيله من ملاحظات سياسية بالاستناد الى التطوّرات العسكرية المذكورة يُحيل الى ثلاثة أمور.

الأول، أن إيران وحلفاءها غير السوريّين، لا سيّما حزب الله، صاروا يُعلنون رسمياً قيادتهم للمعارك في سوريا، وأن طهران تؤكّد بذلك لواشنطن ودول الغرب أنها المرجع الأوّل في دمشق قبل موسكو. فهي القائدة للآلة الحربية وهي المُنقذة العسكرية لنظام الأسد وصاحبة السلطة الكاملة على القوى المقاتلة في الجبهات الحسّاسة. وهذا يعني بالعرف الإيراني، عشية جولة مفاوضات جديدة حول الشأن النووي والأدوار الإقليمية، أن أيّ حلّ سوريّ إنما يتمّ بالتفاهم مع طهران (وليس موسكو) أو على الأقل بشراكتها الكاملة في صياغته.


الثاني، أن الايرانيّين يريدون توظيف قتالهم "داعش" في العراق بمباركةٍ دولية داخل سوريا. وهذا يفترض بالنسبة إليهم أن تُطلق يدهم في سوريا تماماً كما هي مُطلقة في العراق (وكما صارت مُطلقة في اليمن).

المفارقة هنا أن لا رقعة اشتباك جدّية واحدة للإيرانيين وحلفائهم مع "داعش" في سوريا، بل على العكس. فبعض المناطق التي يحتلّها مقاتلو "داعش" في ريف حلب الشرقي هي بمثابة الظهر لقواتهم المهاجمة التي تحاول قطع حلب عن ريفها الشمالي. والظهر هذا بدا طيلة الفترة الماضية آمناً لم يشغل قوّاتهم بمناوشة أو باشتباك واحد خلال هجماتهم الواسعة ضد المعارضة.

كما أن لا معارك يخوضها الإيرانيّون أو حزب الله مباشرة في دير الزور حيث نقاط الاشتباك مع "داعش" مهمّة استراتيجياً لقربها من العراق ومن صحراء تدمر التي يستخدمها التنظيم لنقل قوات الى بعض مناطق حمص ونحو أطراف الريف الدمشقي الشرقية.

الأمر الثالث، أن تركيز الجهد الحربي الإيراني الحزب إلهي في الشهر الأخير في وجه "الجبهة الجنوبية"، وهي تجمّع القوى الأقرب الى الواقع الشعبي السوري المعارض، إن في درعا أو في القنيطرة أو في الريف الدمشقي، إنما هو إعلان حربٍ صريح ضد "الأكثرية" السورية – بعد سنوات من الإعلان المبطّن – يستكمل ما جرى في القصير وحمص، ويهدف الى توسيع طوق النجاة حول دمشق جنوباً بعد تأمين السيطرة على المناطق المفضية الى الحدود اللبنانية غرب العاصمة السورية والى الساحل السوري شمالها، مع ما يتطلّبه الأمر من تهجير وتعديل في الديموغرافيا المذهبية.

إضغط هنا للاطلاع على النص الكامل
عن «داعش» الإيراني... وعن العراق أيضاً

حازم الأمين

(نقلاً عن صحيفة الحياة)

ينما العالم منشغل بـ «داعش»، وبالمستوى المشهدي غير المسبوق الذي بلغته جريمته، أصدرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» تقريراً عن ممارسات الميليشيات الموالية لإيران في العراق، مثل «عصائب أهل الحق» و»كتيبة بدر» ومجموعات «أبو فضل العباس»، وكشف التقرير الموثق بشهادات ضحايا ومسؤولين عراقيين حكوميين وشهود، بالإضافة إلى أشرطة فيديو ومعاينات لجثث ومقابر جماعية، أننا حيال «داعش» موازٍ.

في التقرير، وردت معلومات موثقة عن عمليات إحراق مساجين وإعدام فتية والتمثيل بجثث. وأرقام الضحايا في منطقة معينة مئات، يبلغ تكرارها في المناطق آلافاً. أما المناطق التي شهدت هذه الانتهاكات، فورد في تقرير المنظمة الدولية عنها ما حرفيته: «وثقت هيومن رايتس ووتش خمس مذابح لسجناء في الموصل وتلعفر وبعقوبة وجمرخي وراوة. وفي كل هجمة، كانت أقوال الشهود تشير إلى قيام جنود من الجيش أو الشرطة العراقيين أو من ميليشيات شيعية موالية للحكومة، بإعدام السجناء عبر إطلاق الرصاص، وفي حالة واحدة قام القتلة بإشعال النار بعشرات من السجناء، وفي حالتين ألقوا قنابل يدوية داخل الزنازين».

ليست «هيومن رايتس ووتش» وحدها من وثّق هذه الجرائم. «نيويورك تايمز» أيضاً نشرت تحقيقاً عن هذه الممارسات كانت سبقت فيه «هيومن رايتس ووتش»، وكذلك فعلت شبكة «سي أن أن» الإخبارية.

والحال أن جرائم الميليشيات الموالية لإيران، سبق بعضها سقوط الموصل بيد «داعش»، وأعقب بعضها هذا الزلزال. ولهذا التعاقب الزمني وظيفة في تفسير أشكال العنف العراقي المتبادل. فمسؤولية إيران عن ولادة «داعش»، لا تقل عن مسؤولية حزب البعث، ولا عن «السلفية الجهادية» التي غزت وجدان «أهل السنة» منذ عقد ونيف. لكن ما يُثير الحيرة فعلاً، أن ما وثّقه العالم في السنتين المنصرمتين، سواء في العراق أو في سورية، هو جرائم «داعش»، في حين لم تُثمر عمليات رصد الجرائم الموازية، إنتاج رأي عام يشعر بأن هذه الجرائم بلغت مستويات تقتضي التبصّر فيها، أو التصدّي لها.

وهذا علماً بوجود فارق بين جريمة «داعش» وجريمة الميليشيات العراقية الموالية لإيران. ذاك أن الأول أفقه الجريمة فقط، أي أن حدود الجريمة المرتكبة هي الجريمة نفسها، وهي صورته ووقع الصورة، وهذا ليس فعلاً سياسياً، وإن كان سياسياً فوظيفته إقفال الأفق أمام السياسة. أما الميليشيات الموالية لإيران، فللجريمة التي ترتكبها وظيفة سياسية موازية، وهي إحداث تغيير ديموغرافي يتم عبره رسم خريطة مختلفة للعراق. فإرسال ميليشيا «الحشد الشعبي» إلى محافظة ديالى، أحدث عملية نزوح كبرى للعراقيين السنّة في هذه المحافظة. وهذا نوع من الترانسفير الذي يتيح فتح الطريق من الحدود الإيرانية إلى العاصمة بغداد من دون عوائق «سنية». والترانسفير ذاك يلبي أيضاً وظيفة ثانية، فيؤمّن طريق قوافل الدعم الإيراني إلى النظام في سورية.
في محيط بغداد، تجري عمليات مشابهة، ذاك أن بغداد محاصرة بالسكن السني من جهاتها كافة، واليوم تجري محاولات لتغيير هذا الواقع عبر الميليشيات نفسها.


إضغط هنا للاطلاع على النص الكامل