Monday, January 26, 2015

أيها الشهداء لا تتكاثروا

محمّد علي مقلّد (صحيفة المدن الالكترونية)

(في رثاء أبو عيسى ، الشهيد الخامس في عائلته)

مقالتي ليست دعوة إلى التمرد على حزب الله، فقد تعلمت من الماركسية كيف أكون مع الاختلاف من داخل الوحدة وكيف لا تكون الوحدة وحدة حقيقية إلا في ظل المحافظة على الاختلاف، ولأنني اكتشفت أن كل أنواع الانشقاق التي عرفتها البشرية في تاريخ دياناتها وأحزابها وتياراتها الفكرية والايديولوجية، شيعة وسنة، بروتستانتية ومارونية وكاثوليكية ، معتزلة وأشعرية ، ماوية ولينينية وتروتسكية، إلى آخر اللائحة، لم تشكل حلولا ناجحة لمسألة الاختلاف في الرأي، بل هي كانت تشعل الحرب كلما ركبت في قناة الفكرة رأسا معدنيا قاتلا، على قول المتنبي، كلما أنبت الزمان قناة ، ركب المرء في القناة سنانا.

 ولا هي ردة فعل على استشهاد بطل هو الخامس من عائلة واحدة من أقربائي؛ ولا هو ندم على انخراطي طويلا وبصدق في التضحية من أجل "القضايا الكبرى"، بعد أن نجوت من رصاص صهيوني أصابني ذات مرة ، ومن رصاص صديق كاد أن يصيبني أكثر من مرة، وكانت نجاتي  مع الآلاف من رفاقي وأبناء شعبي مجرد صدفة أبقتني وإياهم على قيد الحياة.

بل هي نوع من رجاء أكرره على مسامع حزب الله لإعادة النظر في مسلمات عن الموت والشهادة والوطن والقضية، وهي المسلمات ذاتها أو ما يشبهها التي تحكمت بمخيلتي ومنهج تفكيري حين كنا نمجد التضحية في سبيل القضية ونحصي أعداد من قضوا من رفاقنا في الحزب الشيوعي دفاعا عن حزبهم وقضايا وطنهم وأمتهم، وينتظر كل منا ترتيبه في اللائحة ، إلى أن حرك استشهاد الطبيب حكمت الأمين في داخلي ركود تلك المسلمات، فتساءلت لماذا قضى خارج عرينه الطبي وبعيدا عن بلدته ومستشفاه؟ وهل قضى حقا في سبيل القضية؟ وكيف يمكن أن تكون القضية قد ارتوت من دمه؟ 

للمزيد إضغط هنا

Monday, January 12, 2015

الإصدار الأول

لم يخطر لنا يومَ باشَرنا، مطالعَ 2015، في الإعدادِ لهذا الإصدار المتواضِع أنْ نُهْدِيهِ إلى أحَد، ولكنَّ أوْلياءَ القَتَلِ الحلال أرادوا غير ذلك.

إلى المُسْتَشْهَدين بَيْنَ يَدَي حُرّيّة الرأي والقَوْل هذا الإصدار الأول.






حرب المخيمات الثانية

في20 أيّار 2015 لن يحتفل أحد، وسط مراسم رسمية، بالذّكْرى الثلاثين على اندلاع «حرب المخيمات» ــ وفي الطّليعة ممن لن يُحِبَّ أن تعود هذه الذكرى أولئك الذين «اسْتَأسَدوا» يومذاك على «المخيمات»، والذين لا يحملون فقط وزر ما سفحوا من دم فلسطيني، ولكن، أيضاً، وزر ما أراقوا، كرمى نظام الأسد، من دم لبناني شيعي يبقى برسم الإحصاء أولاً، وبرسم المحاسبة عليه ثانياً وثالثاً ورابعاً! وإلى هذين الدَّمَيْن، فهم يحملون أيضاً وِزْرَ التأسيسِ، في لبنان، لما بات يُطلق عليه اصطلاحاً «الفتنة السّنية/الشيعية». 

وإذا كانت «حرب المخيمات» تلك قد دامت نحواً من ثلاث سنوات، (أيار 1985 ــ تموز 1988)، فإن حربَ سوريا التي زَجَّ فيها «حزبُ اللـه» باللبنانيين الشيعة، دفاعاً عن نظام ظالِمٍ، ونزولاً عند أوامِرِ نظامٍ يُحَسّنُ الاسْتِبْدادَ باسم آل البيت، تبدو مفتوحةً إلى ما لا نهاية له. ولكن، وعلى الرغم من الفارق بين الحَرْبَيْن، ظروفاً وملابساتٍ وأكلافاً، فلا نَظلم أيّاً منهما إن وصفنا حَرْبَ سوريا بـ «حرب المخيمات الثانية».

فـ «حرب المخيمات الثانية»، شأن شقيقتها الكبرى، حرب وقودها، (في عداد آخرين)، شبان لبنانيون شيعة، وهي حرب لن تنتهي، في أحسن الأحوال، وكما يُقِرُّ بذلك مَنْ يُنْزلون الموتَ في حمص وحلب ودمشق منزلة «الشهادة»، إلا «بتنازلات مؤلمة»، وهي، أخيراً لا آخراً، حرب تؤسس لمزيد من «الفتن».

هو كذلك ولكنَّ البلاءَ أدهى وأعظم! فإن تكن «حركة أمل» قد خاضت «حرب المخيمات الأولى» في مرحلة كان «حزب اللـه» خلالها مُنشغلاً، (في عداد مشاغل أخرى)، بتمكين أركانه، وحريصاً كل الحرص على صورته «الإسلامية» العابرة للمذاهب مِنْ أن تلطخ بدم فلسطيني (سني) ــ فنأى بنفسه عن تلك الحرب بل تقمَّص كلما أتيح له ذلك دور المُسعف والإطفائي ــ فـ«حزب اللـه»، نفسه، يخوض اليوم «حرب المخيمات الثانية» في سوريا في ظل تمدد غير مسبوق للنفوذِ الإيراني على امتداد العالم العربي ــ نفوذٍ يترجم عن نفسه لبنانياً باستيلاء شبه مُحْكَم لهذا التنظيم على مرافق لبنان السياسية والعسكرية والأمنية، واستيلاء لا يقل إحكاماً على القرار السياسي الشيعي حتى إنه ليس لأحد في صفوف الجماعة الشيعية، بما في ذلك «حركة أمل»، أن يتقمص، في حال أراد ذلك، دور الناصح له ــ لـ«حزب اللـه»!

بالطبع، لـ«حزب اللـه» أنْ يستولي مِقدارَ ما وسعه الاستيلاء، وله أيضاً أن يصم آذانه حتى عن النصائح التي يحسب البعض أنَّ إسداءها إليه مبرء لذممهم، غير أنَّ شيئاً من هذا لا يُبَرّر اليوم، ولن يبرر غداً، للبنانيين عموماً، وللبنانيين الشيعة على نحو
أخصّ، سكوتَهم عن هذه الحرب التي تَنْتَحِلُ، فيما تنتحله من عناوين، حماية لبنان واللبنانيين، لا سيما الشيعة منهم.

بعد أشهر قليلة، في الذكرى الثلاثين على اندلاع «حرب المخيمات الأولى»، لن يخْلوَ آتونُ «حرب المخيمات الثانية» من أن يلفظَ إلى مثواه الأخير ــ ثرى قرية جنوبية أو بقاعية، أو روضة من رياض الضاحية ــ شاباً شيعياً لا ما يميزه اليوم عن أترابه المعبئين للقتال في سوريا سوى أنه ما يزال على قيد الحياة! يومها، في 20 أيار 2015 ستدور آلة الموت دورتها المعهودة، وما هي أن يمضي «الأسبوع»، وأن ينزل الخطيب الجهوري عن المنبر، حتى يتحول «الشهيد» ذو الاسم والوجه والطلعة والعائلة و و و... إلى ملفٍّ في حاسوب من حواسيب «مؤسسة الشهيد»، أو سواها مِنْ بيوت مال «المال النظيف».
في الحديث: «قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار».


حتى ثبوت العكس، قتلانا ملفات...
جاري مقبرة جماعيّة...

رشا الأمين

لأحدهم صخرةٌ عُلّقَتْ بالنجم يسكنها، أما أنا فلي جار «شهيد» معلّق على المبنى المقابل لشرفتي. جاري لا يفرح ولا يحزن؛ فقط ينظر إلي وعلى وجهه ابتسامة خجولة. أحييه كل صباح: «السلام عليكم»، لا يجيب. ألح في التحية، لا من مجيب.

مرّ على لقائنا الأول أشهر. كان ذلك، في ما أذكر، الصيف الماضي. لست أدري في ثرى أي قرية أو دسكرة واروه، أو واروا ما عاد من جثته، ولكن، الصيف الماضي، علقوه ــ علقوا صورة له ــ على الواجهة الزجاجية الصفيقة للمبنى المقابل لشرفتي.

وللمبنى المذكور قصة تروى. ففي أول عهده زين المبنى بيافطة يستدل منها بأنه يضم داراً للنشر اسمها «دار المعارف الإسلامية الثقافية». لم يخالطني شك بأنها دار إلهية بمعنى ما ولكن سرّني ذلك. في النهاية، «الثقافة ثقافة، كما تقول صديقتي... ومش مهم ثقافة شو...».

ولكن عام 2013، وما تخلله من خوف وانتحاريين وانفجارات، وبين ليلة وضحاها، خلع المبنى قناع الثقافة، وأسفر عما أفترض أنه وجهه الحقيقي... بين ليلة وضحاها تحول المبنى إلى هدف عسكري بشهادة ما أحيط به من مكعبات إسمنتية ضخمة وكاميرات وما يتناوب على حراسته من شيب وشبان. «كمان مش مهم، همست لي صديقتي... وهل الضاحية في عيون الأشرار إلا سلة من الأهداف العسكرية؟».


لم تقنعني صديقتي كل الإقناع بأن الأمر بهذه البساطة ولكن قلت «ماشي...».
 
ثم كان يوم علقوا فيه صورته على الواجهة الزجاجية للمبنى المقابل لشرفتي وصرت جارة «شهيد الدفاع المقدس رائف د.» وصار هو جاري. 

لا تختلف صورته عن صور باقي زملائه التي أخذت بالانتشار في حيّنا مع اندلاع الحرب في سوريا. كل ما في الأمر أنها، لقربها من شرفتي، تبدو لي أكبر من كل الصور الأخرى، وكل ما في الأمر أنها حاضرة ليل نهار... تماماً كالحرس المحيطين بالمبنى الذي تتدلى منه.

رائف، في الصورة، يبدو في آخر العشرينيات. لا أعرف متى التقطت له هذه الصورة أو لماذا اختيرت لتخليده دون سواها. فالجزمة البيضاء التي ينتعلها تبدو لي ضخمة جداً قياساً بالصورة نفسها، والسلاح الذي يحمله مصوب نحو الأرض وليس صوب السماء أو في أي اتجاه آخر أكثر إيحاء ودلالة.  أما قامته، في الصورة على الأقل، فمديدة تكاد تطاول قبة المسجد الأقصى؛ أما العلم الأصفر في أعلى يمين الصورة، فوق القبة وفوق الشهيد، فكستارة مسرح آيلة للانسدال عليهما، وعلى المشهد برمته، في كل حين.

الأرجح أنني أفكر برائف أكثر مما يفكر به الكثيرون من زملائه ومن إخوانه. فرائف، دون كل «الشهداء» الذين ألتقي بهم على الطرقات جاري. جاري ولكنه جار كتوم ومن ثم هو مثير للفضول ومتى ما وصل الفضول إلى حائط مسدود لا يبقى إلا الخيال:


سيناريو 1: لسبب ما لم يكمال رائف دراسته بل التحق بسوق العمل باكراً، ومن ورشة غيار الزيت إلى المسجد إلى أول معسكر إلى أسابيع الخدمة في الجنوب إلى سوريا إلى «الشهادة» دارت الحياة دورتها.

سيناريو 2: أكمل رائف دراسته المتوسطة والتحق بـ«معهد الآفاق» لدراسة المحاسبة وخلال دراسته التحق بكشافة المهدي ثم بدأ بارتياد المسجد وبالمشاركة في تنظيم المسيرات الحزبية ثم تابع أول دورة عسكرية. وما إن أنهى دراسته في معهد الآفاق حتى عرضت عليه وظيفة في مؤسسة القرض الحسن وهكذا مرت عليه سنوات كانت خدمته فيها تقتصر على أسابيع معدودة يغيب فيها دون أن يعرف أحد أين هو إلى أن بدأت الحرب في سوريا. ذات يوم من ربيع 2013 ودّع العائلة ولم تمض أسابيع حتى تحققت نبؤة مارسيل خليفة فيه «وعاد مستشهداً».

سيناريو 3: رغم أن رائف من سكان الضاحية وأنه أنهى دراسته الثانوية في إحدى مدارسها فلقد حرص أهله على الحيلولة بينه وبين تأثيرات المحيط. كان يحز في نفسه أنه «محروم» من متابعة أترابه سواء ابن جارهم العامل في ورشة غيار الزيت أو ابن جارهم الذي ترك المدرسة والتحق بـ«معهد الآفاق». لم يخذل رائف أهله فترقى عاماً بعد عام من صف إلى صف إلى أن التحق بالجامعة. في الجامعة التقى بشاب ملتزم ذي لحية خفيفة. لم يعرف رائد بداية أن الشاب ذا اللحية الخفيفة ليس طالباً عادياً وإنما حزبي متفرغ برتبة طالب. ساعده الشاب ذو اللحية الخفيفة في كل ما احتاج إليه للتأقلم مع الجامعة وجوها، ولكن المساعدة لم تقتصر على ذلك فقط. فيوم أنس الشابُ ذو اللحية الخفيفة أنَّ رائف قد نضج، دعاه إلى مرافقته إلى جامع سيّد الأوصياء في برج البراجنة. ومن هناك كانت البداية... ومن هناك كانت النهاية!

في ربيع 2014 شارك حزب اللـه في «تحرير» عدد من قرى القلمون، وكسواه من «الإخوان» فرح رائف فرحاً عظيماً. صحيح أن كفاءات رائف العسكرية خلال أسابيع التدريب القليلة التي تلقاها لم تبهر أحداً من مدربيه ولكن، على قول صديقتي، «مش مهم». فبعد تلك الأسابيع بات رائف جزءاً من «التعبئة»، وكان فرحه بتلك «الانتصارات» مساوياً لشعوره بـ «الانتماء»، أكثر منه لحُسْن ظنه، هو نفسه، بقدراته العسكرية. ثم كان اليوم الذي دعي فيه رائف، بوصفه «احتياط»، إلى اجتماع عاجل. خرج رائف من الاجتماع قلقاً ولكن لـ«الرجولة» نداء لا يرد وهكذا وجد نفسه بعد يومين على ذلك الاجتماع مرابطاً على تلة وعرة في لا مكان بين لبنان وسوريا ــ أو هذا ما قيل له.

لم تكن التلة التي يرابط عليها مركزاً متقدماً فأشعره ذلك بغبطة لا يحل لغزها إلا هو: «أخيراً، ها أنذا أحقق حلمي بـ «الرجولة» ولا أشعر بالذنب حيال أمي...».

لم تكن التلة التي يرابط عليها مركزاً متقدماً، ولأنها كذلك فلم يقتض شباب «الهيئة الصحية» بذل الكثير من الجهد لـ«سحب الجثة» ــ جثته التي لم تشوه رصاصةُ القَنْصِ القاتلةُ سوى أعلى الصدر منها ــ وللعودة بها إلى نصابها من «الموت العادي».

أقول لصديقتي: «جاري مَقْبرةٌ جماعية»، فَتُعْرِضُ عنّي وتتهمني بالشعر والمبالغة...


إلى أخي الذي ماتَ في سوريا

فاطمة عبدالله

لم أكن أعرفُ أنّ الموت حقيرٌ ونذلٌ الى حدّ الانهيار قبل رحيلك. عرفته قطّاع قلوب، خطّاف ابتسامات، لكنني لم أعهده مُحطِّماً يُكبِّرُ الألم، ويدسّ الملحَ في الجرح، ويجعلُ الوقتَ وحشاً، قبل أن أراكَ جثة.

أخبرتكَ أنني إذا دنت لحظةُ موتكَ سأقعُ أرضاً ولن يقوى أحبّاؤكَ على جعلي مُتّزنة.

إنني يا أخي هشّة وعاجزة، تخذلني دموعي كلّما احتجتها. يخذلني الكون من حولي لأنكَ ترحل. أتُدركُ معنى أنْ ترحل؟ أنْ تُخلِّف وراءك  أماً عجوزاً وأباً تائهاً وأختاً تتصنّع القوة فيما هي تتفتت، وأخوةً يُعزّون أنفسهم بأنّك الآن في الجنّة؟ أما أنا، فمنذ رحيلك مُدمَّرة. مذهولة. خَرِس لساني.

ظلّت الصور في رأسي مُشَوّشة. أشهرٌ مضت وأنت فيّ جثّةً كلّ ليلة. لم أتخيّلكَ إلّا ميتاً. ولكن إنْ جاء موتُكَ اشتدّت القسوة. موتُكَ يستولي على النفس فيُضيّق عليها، ويجعل اللحظة كابوساً أبدياً. اعذرني إن عجزتُ الآن عن وصفه. أو ملامسته. أو الصراخ في وجهه.

اعذرني لأنني لم أزفّك شهيداً كما الجميع يفعل.

اعذرني لأني يا أخي لا أقرأ الفاتحة وأعبس في وجه كل مَن يُصوّرك مُرتاحاً بموتك. ثم أنهارُ وأنهارُ وأريدُ ألا أنهض.

كانت السادسة والنصف صباح الجمعة الفائت عندما أيْقَظْتَنا من أجل الوداع. مرّ يومان حتى حلّ وداعٌ مرعبٌ صاعقٌ. منذ خبر رحيلك وأنا صمتٌ قاتل. بقيتُ هناك، حيث أنتَ تتألم بينما تأتيك الرصاصة في رأسك. أنظرُ من حولي فلا أرى وجهكَ. كان مشهدُ القبر مروعاً وأنا الجبانة أضعفُ من أنْ أتقدَّم. أمروني بمناداتك. آخخخخخخ يا خيّ. شو بقول؟ راح القلب يخفقُ بينما نتوجّه الى المستشفى حيث تُسجى. فإذا بي أمامكَ. أمام جثّتك. كلّي على الأرض مُشظّى، ويدي تتحرّك بصعوبة. سامحني يا أخي لأني لمستُ قدمكَ بدلاً من وجهكَ. لكنّ قدميك تعنيان لي الكثير، إذ سارا بكَ نحو النهاية. تركتُ على إحداهما دمعة. أردتُها صافية مثل عينيك اللتين لم تفرحا يوماً. ونهر يستريح في ظلّ شجرة.

لن أحدّثك الآن عن موقفي من خوضكَ الحرب لظنٍّ أنكَ تعرفه أو تشكّ به. أترككَ حراً في اختيار المصير المُناسب. لكني سأخبركَ عن أمّنا كيف تتحطّم وكيف يتمزّق الفؤاد. منذ الفجر وهي تملأ المنزل شوقاً اليك. أُمّنا يا أخي تُصبح غصّة. أجزمُ أنكَ بقيتَ خائفاً من هذه اللحظة. نحن نبكي فقط، فيما هي تُكوى. سأتركُ جانباً بأي الطرق يُخفَّف عن «أم الشهيد»، وكيف تُلقَّن «الصبر». سأتركُ ذلك للجميع، وأحدّثك عنها من دون تحميلك ذَنْبَ وجعها. أُدركُ جيداً أنّكَ منذ كنتَ طفلاً وأنتَ تشعرُ بالذنب تجاهها وتجاهنا. الظرفُ ليس مناسباً للهلوسة، وأحدٌ لن يكترث ليعرف المزيد عنا. لكنني يا أخي حين لمستُ ترابَكَ رحتُ أشتاقُ اليك، فأتذكّرُ الماضي والنشأة. رحتُ أصرخُ كما لو أنني أجمعُ صراخَ الكون في صرخة.

أحبّكَ من دون مقابل، ومن دون أن يكون لكلينا أي نظرة مُشتركة. سامحني إذ لم أكن أقلّد سلوك الجميع في التبرّك منكَ وتهنئتك. سامحني لأني لا أحملُ تطلعات الأخت التي تتمنى.

ذنبي تجاهك يقتلني، فأزدادُ حاجةً لأن أخرس. لا أملكُ إلا أن أكتبَ اليكَ كلاماً لا يعنيكَ ولن تقرأه البتة. أخشى أنكَ تراقبني فتُدركَ بأني لستُ كالجميع أحبّك. قلْ أنّكَ تفعل وسأتوقّفُ عن البوح وأصمتُ الى الأبد. أقبّلُ وجهكَ المُحطَّم وقدميك اللتين اختارتا طريقهما. أقبّلُ روحكَ التي توجِعُ روحي وحِذاءَكَ الذي تركوه لنا وكل صورك.

نُشِرَت هذه الشهادة على صفحات النهار يوم 5 آذار 2014