Monday, January 12, 2015

جاري مقبرة جماعيّة...

رشا الأمين

لأحدهم صخرةٌ عُلّقَتْ بالنجم يسكنها، أما أنا فلي جار «شهيد» معلّق على المبنى المقابل لشرفتي. جاري لا يفرح ولا يحزن؛ فقط ينظر إلي وعلى وجهه ابتسامة خجولة. أحييه كل صباح: «السلام عليكم»، لا يجيب. ألح في التحية، لا من مجيب.

مرّ على لقائنا الأول أشهر. كان ذلك، في ما أذكر، الصيف الماضي. لست أدري في ثرى أي قرية أو دسكرة واروه، أو واروا ما عاد من جثته، ولكن، الصيف الماضي، علقوه ــ علقوا صورة له ــ على الواجهة الزجاجية الصفيقة للمبنى المقابل لشرفتي.

وللمبنى المذكور قصة تروى. ففي أول عهده زين المبنى بيافطة يستدل منها بأنه يضم داراً للنشر اسمها «دار المعارف الإسلامية الثقافية». لم يخالطني شك بأنها دار إلهية بمعنى ما ولكن سرّني ذلك. في النهاية، «الثقافة ثقافة، كما تقول صديقتي... ومش مهم ثقافة شو...».

ولكن عام 2013، وما تخلله من خوف وانتحاريين وانفجارات، وبين ليلة وضحاها، خلع المبنى قناع الثقافة، وأسفر عما أفترض أنه وجهه الحقيقي... بين ليلة وضحاها تحول المبنى إلى هدف عسكري بشهادة ما أحيط به من مكعبات إسمنتية ضخمة وكاميرات وما يتناوب على حراسته من شيب وشبان. «كمان مش مهم، همست لي صديقتي... وهل الضاحية في عيون الأشرار إلا سلة من الأهداف العسكرية؟».


لم تقنعني صديقتي كل الإقناع بأن الأمر بهذه البساطة ولكن قلت «ماشي...».
 
ثم كان يوم علقوا فيه صورته على الواجهة الزجاجية للمبنى المقابل لشرفتي وصرت جارة «شهيد الدفاع المقدس رائف د.» وصار هو جاري. 

لا تختلف صورته عن صور باقي زملائه التي أخذت بالانتشار في حيّنا مع اندلاع الحرب في سوريا. كل ما في الأمر أنها، لقربها من شرفتي، تبدو لي أكبر من كل الصور الأخرى، وكل ما في الأمر أنها حاضرة ليل نهار... تماماً كالحرس المحيطين بالمبنى الذي تتدلى منه.

رائف، في الصورة، يبدو في آخر العشرينيات. لا أعرف متى التقطت له هذه الصورة أو لماذا اختيرت لتخليده دون سواها. فالجزمة البيضاء التي ينتعلها تبدو لي ضخمة جداً قياساً بالصورة نفسها، والسلاح الذي يحمله مصوب نحو الأرض وليس صوب السماء أو في أي اتجاه آخر أكثر إيحاء ودلالة.  أما قامته، في الصورة على الأقل، فمديدة تكاد تطاول قبة المسجد الأقصى؛ أما العلم الأصفر في أعلى يمين الصورة، فوق القبة وفوق الشهيد، فكستارة مسرح آيلة للانسدال عليهما، وعلى المشهد برمته، في كل حين.

الأرجح أنني أفكر برائف أكثر مما يفكر به الكثيرون من زملائه ومن إخوانه. فرائف، دون كل «الشهداء» الذين ألتقي بهم على الطرقات جاري. جاري ولكنه جار كتوم ومن ثم هو مثير للفضول ومتى ما وصل الفضول إلى حائط مسدود لا يبقى إلا الخيال:


سيناريو 1: لسبب ما لم يكمال رائف دراسته بل التحق بسوق العمل باكراً، ومن ورشة غيار الزيت إلى المسجد إلى أول معسكر إلى أسابيع الخدمة في الجنوب إلى سوريا إلى «الشهادة» دارت الحياة دورتها.

سيناريو 2: أكمل رائف دراسته المتوسطة والتحق بـ«معهد الآفاق» لدراسة المحاسبة وخلال دراسته التحق بكشافة المهدي ثم بدأ بارتياد المسجد وبالمشاركة في تنظيم المسيرات الحزبية ثم تابع أول دورة عسكرية. وما إن أنهى دراسته في معهد الآفاق حتى عرضت عليه وظيفة في مؤسسة القرض الحسن وهكذا مرت عليه سنوات كانت خدمته فيها تقتصر على أسابيع معدودة يغيب فيها دون أن يعرف أحد أين هو إلى أن بدأت الحرب في سوريا. ذات يوم من ربيع 2013 ودّع العائلة ولم تمض أسابيع حتى تحققت نبؤة مارسيل خليفة فيه «وعاد مستشهداً».

سيناريو 3: رغم أن رائف من سكان الضاحية وأنه أنهى دراسته الثانوية في إحدى مدارسها فلقد حرص أهله على الحيلولة بينه وبين تأثيرات المحيط. كان يحز في نفسه أنه «محروم» من متابعة أترابه سواء ابن جارهم العامل في ورشة غيار الزيت أو ابن جارهم الذي ترك المدرسة والتحق بـ«معهد الآفاق». لم يخذل رائف أهله فترقى عاماً بعد عام من صف إلى صف إلى أن التحق بالجامعة. في الجامعة التقى بشاب ملتزم ذي لحية خفيفة. لم يعرف رائد بداية أن الشاب ذا اللحية الخفيفة ليس طالباً عادياً وإنما حزبي متفرغ برتبة طالب. ساعده الشاب ذو اللحية الخفيفة في كل ما احتاج إليه للتأقلم مع الجامعة وجوها، ولكن المساعدة لم تقتصر على ذلك فقط. فيوم أنس الشابُ ذو اللحية الخفيفة أنَّ رائف قد نضج، دعاه إلى مرافقته إلى جامع سيّد الأوصياء في برج البراجنة. ومن هناك كانت البداية... ومن هناك كانت النهاية!

في ربيع 2014 شارك حزب اللـه في «تحرير» عدد من قرى القلمون، وكسواه من «الإخوان» فرح رائف فرحاً عظيماً. صحيح أن كفاءات رائف العسكرية خلال أسابيع التدريب القليلة التي تلقاها لم تبهر أحداً من مدربيه ولكن، على قول صديقتي، «مش مهم». فبعد تلك الأسابيع بات رائف جزءاً من «التعبئة»، وكان فرحه بتلك «الانتصارات» مساوياً لشعوره بـ «الانتماء»، أكثر منه لحُسْن ظنه، هو نفسه، بقدراته العسكرية. ثم كان اليوم الذي دعي فيه رائف، بوصفه «احتياط»، إلى اجتماع عاجل. خرج رائف من الاجتماع قلقاً ولكن لـ«الرجولة» نداء لا يرد وهكذا وجد نفسه بعد يومين على ذلك الاجتماع مرابطاً على تلة وعرة في لا مكان بين لبنان وسوريا ــ أو هذا ما قيل له.

لم تكن التلة التي يرابط عليها مركزاً متقدماً فأشعره ذلك بغبطة لا يحل لغزها إلا هو: «أخيراً، ها أنذا أحقق حلمي بـ «الرجولة» ولا أشعر بالذنب حيال أمي...».

لم تكن التلة التي يرابط عليها مركزاً متقدماً، ولأنها كذلك فلم يقتض شباب «الهيئة الصحية» بذل الكثير من الجهد لـ«سحب الجثة» ــ جثته التي لم تشوه رصاصةُ القَنْصِ القاتلةُ سوى أعلى الصدر منها ــ وللعودة بها إلى نصابها من «الموت العادي».

أقول لصديقتي: «جاري مَقْبرةٌ جماعية»، فَتُعْرِضُ عنّي وتتهمني بالشعر والمبالغة...

No comments:

Post a Comment